شوارع صاخبة حولتها «الجماعة» لمدينة أشباح

تجلس أمام التليفزيون، بيديها «ريموت كنترول»، تتنقل بين القنوات لمتابعة آخر تطوّرات الأحداث، يوقفها مشهد سيدة خمسينية متشحة بالسواد، تمسك ببدلة عُرس ابنها على «بنت الحلال»، تترك السيدة وتخرج برأسها من شباك منزلها فى الطابق الثانى لكى تطمئن على ابنها، تجده يجلس أمام المنزل يُطعم الخرفان تارة، ويساعد والده فى تقطيع اللحوم وتوزيعها على زبائنه تارة أخرى، فتحمد ربها على نعمة «الضنا»، ثم تعاود رحلتها بين القنوات، لتجد تقريراً مجمّعاً عن الشاب الصحفى الذى سقط على أيدى الإخوان فى أحداث الاتحادية، سماحة صورته لم تفارق عينيها، فتُقلّب كفيها مرددة: «الله يكون فى عون أمه».
لم تكن والدة «زيزو» تتوقع يوماً أن تمسك ببدلة ابنها، كوالدة الشهيد محمد الجندى، ولا تتأمّل سماحة ابنها وقد تمدّد شهيداً على شاشات التليفزيون، كوالدة الحسينى أبوضيف، وهى تقترب من ابنها باكية، فيسألها بتلعثم «فيه إيه يا أمى؟»، فتحاول شرح إحساسها المفاجئ دون جدوى، فابنها يعانى ضعف السمع والكلام، تكتفى بالتربيت على كتفه وتبتسم، ثم تسأله بصوت عالٍ: «إنت أكلت ولا لسه؟».
أشهر قليلة مرت، جعلت السيدة تبتهج مع المبتهجين من أهالى منطقة بين السرايات، بالدعوة إلى مظاهرات 30 يونيو للخلاص من نظام «الإخوان الكدابين». تدعو الله أن يأتى هذا اليوم بثماره ويكون عوضاً لأمهات «جيكا وكريستى والجندى والحسينى»، تسمعها جاراتها وتدخل معهن فى حوار حاد: «هما عملوا لك إيه؟، دول ناس بتوع ربنا»، تثور السيدة مرددة: «بتوع ربنا إيه دول قتلة، فيه حد مسلم يطلع يقول لك إنه شاف الرسول عليه الصلاة والسلام فى المنام، وطلب من مرسى أنه يصلى بيه؟ إذا كان سيدنا أبوبكر الصديق رفض أنه يصلى بسيدنا محمد»، لترد جارتها: «وماله مش ممكن يكون الكلام ده حقيقى».
تتركها السيدة وتدخل منزلها لإعداد الطعام، بينما يقف «زيزو» غير آبه بشىء سوى «خرافه» وأصدقائه من الأطفال، يعاون والده فى الذبح، يمسك بالذبيحة ويُحكم مسكتها ببنيته القوية، بينما يقوم والده بالذبح، يمارس «زيزو» مهامّه بتجهيزها، بينما يتجه والده إلى شارع «ثروت» الرئيسى ليلتقط زبائنه كالعادة.
مرّ وقت طويل على غياب الوالد، إلى أن رأى «زيزو» والده يتهاوى على الأرض وحوله مجموعة من الفتيات تجرى، باتجاه حاراتهم من الشارع الرئيسى تريدن الاختباء، هرول «زيزو» باتجاه والده لمعرفة ما يدور، فوجد قدمه مصابة بطلق نارى، وعندما حاول حمله كانت طلقتان اخترقتا جانبه، إحداهما هتكت رئتيه والثانية فتكت بكليتيه وطحاله.
صوت الطلقات النارية وصراخ الفتيات جعل السيدة تخرج من بيتها لترى مشهد زوجها وابنها ملقيان على الأرض التى اكتست بدمائهما، وقفت السيدة لم تعرف ماذا تفعل إلى أن جاء محمد يوسف، صديق «زيزو»، ليحمله ويضعه أمام منزله، بعيداً عن قارعة الطريق وخرج ليُحضر أى مساعدة لصديقه، إلا أن المهاجمين من أنصار المعزول استقبلوه بسكين ذبحوا رقبته من الوريد إلى الوريد.
أسلحة آليه وطلقات نارية وصل حجمها إلى نصف بوصة. والدة عبدالعزيز أحمد «زيزو»، راحت تتحدث عن بشاعة الهجوم وضراوة أسلحة المهاجمين، أثناء زيارة «الوطن» لها فى منزلها داخل منطقة الدوار فى بين السرايات: «المنطقة بين لحظة والثانية تحوّلت إلى حرب شوارع، الرصاص جاى من كل مكان، والناس مش لاقية مكان تستخبى فيه، حتى البيوت قدروا يطلعوها ويسيطروا على الأسطح».
وتضيف: «منهم لله خربوا بيتى وقتلوا ابنى اللى مالهوش ذنب، ده كان سمَعه على قدّه وكلامه كمان ما يعرفش إيه اللى بيحصل حواليه، وماكانش سامع صوت الرصاص وقاعد بيشتغل لحد لما شاف أبوه متصاب فى رجله، ولما جرى عليه يسأله ماله كانوا ضربوه رصاصتين فى جانبه».
تنهمر السيدة فى البكاء كلما تذكّرت مشهد ابنها المتوفى وزوجها المصاب ملقيان أمامها، مستطردة «ابنى كان ربنا مسخر له الصحة عشان يخدم بيها عقل أبوه، وماكانش بيقدر يُدرك اللى بيحصل حواليه، ولما كان يشوف اشتباكات فى التليفزيون، يقعد يسألنى هو مين مع مين وماكنتش بقدر أفهمه».
والدة الشهيد زيزو لا ترى سبباً مقنعاً لهجوم مؤيدى الرئيس المعزول على أهالى بين السرايات، خصوصاً أن هذه المنطقة لم تمتد إليهم بسوء، مستدلة على ذلك بيوم مليونية «الشرعية والشريعة»، حيث جاء أنصار «مرسى» للاعتصام فى ميدان النهضة، واستضافهم الأهالى فى الحوارى الجانبية، وأخرجت هى نفسها حصائرها فى عز الشتاء ليجلسوا عليها، وتولت تسخين المياه لهم ليتوضأوا ويصلوا، ثم تتوقف برهة، مرددة: «كنت باعيط على أمهات جيكا والجندى والحسينى وكريستى وماكنتش أتوقع إنى أكون واحدة منهم، حسبى الله ونعم الوكيل فى اللى خربوا بيتى، تخيلى جوزى كان فى المستشفى بيتعالج، وابنى كان متوفى وبيتغسل».
عشرون يوماً مرت على رحيل «زيزو»، والأم لا تغادر غرفته، التى رصّت فيها حقائب ملابسه، استعداداً لزفافه، ومكالمة شقيقها لها يوم مقتله: «ياريت تخلى زيزو يجهز هو وأبوه عشان خلاص أنا لقيت له العروسة»، ما زالت تتردد على مسامعها، بينما الأب ما زال راقداً على سريره، يرفض الحديث عما دار، فصدمته فى أن يرى طفله وساعده الأيمن، الذى كان يتكئ عليه فى عمله، غارقاً فى دمائه بين يديه ما زالت محفورة فى ذهنه.
على بُعد أمتار قليلة من منزل «زيزو»، جلست سيدة فى العقد السادس من عمرها، لا تقوى على الحراك، وبصحبتها سيدتان تحاولان تهدئتها، بينما جلست بجوارها طفلتان لا تتجاوز عمر الواحدة منهما أصابع اليد الواحدة، الحارة التى تجلس فيها السيدة الستينية لا تختلف كثيراً عن حارة والدة زيزو، فالهدوء والسكون يُخيّم على المكان، لا وجود لبشر. البيوت منازلها مغلقة بالسلاسل الحديدية، والشرفات والشبابيك مغلقة بإحكام، فسرته السيدات الثلاث بأن أهالى المنطقة نزحوا بعد هجوم الإخوان المسلح على منطقتهم.
تشير السيدة الستينية إلى المنزل المقابل، وهى تردد: «شايفة الرصاص دخل إزاى جوه البيوت؟»، ثم تطلب من حفيدتها الولوج إلى المنزل وإحضار «البلى» الصينى، قائلة: «أول ما حصل هجوم على المنطقة دخل علينا سيدات منتقبات وكانوا بيرمونا بالنبل غير السلاح اللى كانوا مخبيينه تحت الخمار».
سألنا السيدة عن سبب عدم مغادرتها المنزل، والتمسُّك بالبقاء، رغم هجرة جيرانها للمكان، لتُقاطعنا: «ماقدرتش أسيب بيتى وأمشى، خلاص ماعنديش حاجة أخاف عليها بعد موت ابنى على إيد الإخوان».
تشير السيدة إلى مدخل حارتهم الذى يبعد خطوات قليلة عن منزلها، وتبدأ فى شرح ما حدث لابنها كرم حسن حسان مستطردة: «ابنى شغال أرزقى، سواق على باب الله بيخرج من الساعة 7 الصبح لحد 7 بالليل، ومالوش أى علاقة لا بالسياسة ولا غيره، كل ذنبه إنه كان راجع من الشغل ومعدّى على أول الشارع وداخل بيته، فوقّفه حوالى عشرة من الإخوان، ونزلوا فيه ضرب وسحلوه لحد ما وصلوا به إلى حديقة الأورمان».
يوم كامل أخذته السيدة فى البحث عن ابنها بين المستشفيات وأقسام الشرطة والمشرحة دون جدوى، إلى أن توصلت إلى أحد المحامين من أبناء المنطقة، فأخبرها بضرورة الذهاب ثانية إلى المشرحة والبحث بين الجثث المجهولة، بعدما فشلت كل محاولاتها السابقة.
ذهبت السيدة وقلبها يدعو بألا تجده، مرت بين الجثث إلى أن توقّفت أمام واحدة، ظلت واقفة إلى جوارها، يدلها قلبها على أن هذا الجسد المشوّه الملامح هو لابنها الأربعينى، بينما لا تطاوعها يدها على التثبّت من ذلك، قاومت رفضها الداخلى للتصديق، واقتربت منه، علامات التعذيب فى كل موضع بجسده، الحروق تمتد من الرأس إلى القدم، طعنة أسفل ضلعه الأيسر بآلة حادة وجرح يصل إلى 5 سنتيمترات.
أخذت تقلّب بالجثة، فإذا بخاتمها الفضى الذى أهدته إليه ما زال فى يده، إضافة إلى جرح قديم فى اليد لم يزل مميزاً. تأكدت الوالدة من أنها وجدت ابنها، وأخبرت عامل المشرحة، الذى طلب منها التأكّد أكثر من مرة لترد عليه: «أيوه هو ابنى أنا مش هتوه عنه».
أكثر ما يؤلم السيدة فى رحيل ابنها، التعذيب الذى تعرّض له دون ذنب، متسائلة «موّتوا ابنى وخربوا بيتنا، مين اللى هيصرف عليا وعلى أولاده الثلاثة، قاعدين فى حالنا يضربوه ليه، مش معانا سلاح، ومالناش فى السياسة، يا رب ما تورى اللى شوفته لأم أبداً».
شريط من الذكريات يمر أمام والدة «كرم»، بداية من اقتحام المنازل وتكسير اللمبات التى علقها الشباب فى الحوارى، استقبالاً للشهر الكريم، والتى قام الإخوان بتكسيرها، كنوع من أنواع الإرهاب تارة وإحداث نوع من التعتيم على جرائمهم التى ارتكبوها تارة أخرى، وتحويل الاحتفال الرمضانى إلى مأتم لأهالى المنطقة التى اتشحت بالسواد وغادرها سكانها خوفاً على أطفالهم وأولادهم، وما زال لسانها لا يردّد سوى جملة واحدة «ربنا ينتقم منهم هما ظلمة ومفترين وربنا أقوى منهم وينتقم منهم فى اللى عملوه فينا وفى بلدنا».
الحال داخل حوارى وشوارع بين السرايات لا يختلف كثيراً عن الشارع الرئيسى للمنطقة، الموازى لأسوار جامعة القاهرة، والذى لم يكن يكف عن ضجيج الطلاب والسيارات، فتحوّل إلى مدينة أشباح، المحال والمطاعم ومكتبات التصوير، بعضها مغلق بإرادته والبعض الآخر أُغلق بعدما تكسّرت أبوابه وتحطمت محتوياته على أيدى أنصار المعزول.
الشارع مغلق من الجانبين بمدرعات الجيش المدعومة بسيارات الأمن المركزى، تأميناً لأهالى المنطقة من اعتصام الإخوان، الذى يبعد أمتاراً قليلة عن أهالى المنطقة، فيما يمر أنصار المعزول من الشارع، وصولاً إلى الاعتصام، وكأنهم لم يرتكبوا إثماً وعدواناً هنا.
مكتبة مكوّنة من طابقين، فى عقار بلغت أدواره ثمانية، أغلبها مبنية بالطوب الأحمر، كانت الأكثر جذباً للأنظار، فالرصاصات لم تترك جداراً بها إلا اخترقته، صاحب مكتبة «كوبى برنت»، رجل فى أواخر العقد الثالث من عمره، قابلنا بصبحته طفليه: «عبدالرحمن»، 4 سنوات، و«يوسف»، 6 سنوات، وقرر أن يأخذنا فى جولة موثّقة بتسجيلات فيديو، التقطتها كاميرات المراقبة الموجودة بالمكتبة. تحرك بنا صاعداً إلى الطابق الثانى بالمكتبة، لنكتشف أن جميع محتوياتها من ماكينات حديثة للتصوير، جرى تحطيمها والأوراق متناثرة فى كل مكان، وبعضها اختلطت بالدماء، قائلاً: «مش عارف إيه سبب اقتحام المكتبة، بس كل اللى أنا أعرفه إنهم هجموا عليها وقاموا بتكسيرها وبضرب مجموعة من الشباب كانوا موجودين بيصوّرا أوراق خاصة بيهم».
يذهب الرجل إلى واجهة مكتبته ويشير إلى أماكن طلقات الرصاص الحى التى أحدثت ثقوباً فى الحيطان، يُقلّب كفيه، ناظراً إلى مُعداته التى يفوق ثمنها مئات الآلاف من الجنيهات، قائلاً: «مش عارف إيه السبب إنهم يكسّروا أو يقتحموا مكتبة؟».
انتهت الجولة ولم تنته معها المفاجآت، فأنصار الرئيس المعزول لم يكتفوا باقتحام المكتبات والمحال التجارية بالعقار بينما امتد اقتحامهم إلى الطابقين السابع، حيث مسكن أحمد محمود صاحب المكتبة، والثامن حيث مسكن شريكه وجاره أيضاً، وهو ما دل عليه الصعود إلى الطابقين لإثبات كل كلمة بالأدلة والبراهين، فالسلالم من الطابق الثانى، حيث المكتبة والسابع لا تخلو من فوارغ الخرطوش والرصاص الحى 9 مللى وكلاش.
يقول «محمود»: بعدما اشتدت الأحداث وتم إطلاق النيران بشكل كثيف توجّهت إلى شقتى للاطمئنان على زوجتى وعلى «عبدالرحمن» و«يوسف»، إضافة إلى طفلتى الرضيعة، وفوجئت بسماع طلق نارى قريب من الشقة، اختبأنا فى غرفة نومى وأنا مطمئن أن أحداً لن ينجح فى اختراق باب الشقة المصفّح، ورغم أنهم أطلقوا النار على الباب، فإنهم فشلوا فى فتحه، فخلعوا مفاصله، لأفاجأ بأكثر من 15 شخصاً داخل شقتى يصرخون فى وجهى: «فين ضابط أمن الدولة؟». أخبرتهم بعدم وجود ضباط، وأن يخفضوا أصواتهم ويحترموا حُرمة المنزل وهلع الأطفال، وأن يخفوا سلاحهم الآلى، فقالوا: «سنُحرر الإسلام من أمثالكم»، أمسكت المصحف وقلت: «أنا مسلم زيكم وما ينفعش تقللونى قدام ولادى». لم يصدقوا كلامى بعدم وجود ضباط فى الشقة، وفتّشوا كل الغرف، بداية من غرفة الأطفال، التى حطموا أكثر محتوياتها، إلى غرفة المطبخ التى لم تسلم منهم، إذ قاموا بتحطيم البوتاجاز وأغلب الأجهزة الكهربائية.
أثناء جولتنا فى الشقة التى تعرّضت للهجوم، ذهب طفله إلى غرفته ليبحث عن «الآى باد»، فلم يجده ورغم محاولات الوالد إقناعه بأن أنصار «مرسى» سرقوه، إلا أنه لم يقتنع واستبدل البحث عنه بخرطوم بلاستيكى قائلاً: «أنا هاخد دى عشان لو حد دخل الشقة هاضربه».
آثار اقتحام الشقة امتد إلى الأطفال، حسب الأب الذى أكد أن طفليه يستيقظان مفزوعين يومياً، بسبب ما رأوه على أيدى أنصار الرئيس «المفزوع». وأثناء مغادرتنا الشقة طلب «عبدالرحمن» من والده الصعود إلى الطابق الثامن لرؤية «كريم»، ليقع الأب فى حيرة من أمره، محاولاً إقناع «عبدالرحمن» بأنه مات ودُفن، لم يتفهم الطفل ما قاله الوالد ليتدخل أخوه: «كريم قتلوه زى ما دبحوا بندق»، يُصدم الطفل لوهلة، طالباً من والده مغادرة الشقة، خوفاً من الهجوم عليها مرة أخرى.
الوطن