سيذكر التاريخ أن الإخوان «أوقفوا القطارات فى العيد»

39

أمام «كشك» صغير يجلس مصارعاً فراغ الوقت، يقلب أنظاره على المستويين الأفقى والرأسى فلا يجد سوى مبنى خاوٍ على عروشه، تقف جدرانه بين فراغ الداخل وسكون محيطه، حنين لحظى ينتاب المواطن البسيط ويذهب بذاكرته إلى ضجيج الميدان وعمرانه الدائم بأصوات المسافرين ذهاباً وإياباً، يزيد الضغط الذهنى على أعصاب الرجل الستينى فلا تحتمل كثيراً، يزفر «محمد الجواهرجى» بجملة غضب مفادها «السكة الحديد عمرها ما وقفت غير بسبب الإخوان».

فى متجره المتواضع يقضى «عم محمد» معظم ساعات اليوم بائعاً للمسافرين ومرافقيهم أمام محطة قطار الجيزة، بعد قرار الحكومة يوم 6 أكتوبر الجارى بوقف السكة الحديدية للمرة الثانية بسبب الاضطرابات الأمنية.. خلا المكان ومكث «الجواهرجى» عاطلاً وهو داخل مشروعه الصغير: «خراب بيوت ناس كتير»، رد فعل عم محمد على غلق محطة القطار، غلق أبواب المحطة وتوقف الحياة حولها أصاب الرجل العجوز باليأس خوفاً من إطالة فترة توقفها، يقول: «ما صدقنا فتحت والدنيا بدأت تمشى، منهم لله السبب فى وقف الحال»، يشير «الرجل الجيزاوى» بأصبعه إلى أبواب وشبابيك المحطة وهى موصدة مستشهداً بالتاريخ: «جت حرب 67 و73 والقطورات ماوقفتش وقفلت على إيد محمد مرسى».

«بقينا قاعدين فى صحرا مش ميدان الجيزة»، يعقب الرجل العجوز على الفضاء الذى بات فيه ميدان محطة الجيزة، مضيفاً أن مرفق السكة الحديدية هو «صرة البلد» لأنه يربط مصر ببعضها، الشىء الأكثر استفزازاً للجواهرجى مشاهدته أبواب محطة القطار مغلقة بالسلاسل: «المكان اللى فاتح بيوت وبيأكل يتامى وغلابة يبقى مقفول بالسلاسل كده.. ليه يعنى؟!»، مدافعاً عن لقمة عيشه التى توقفت بتوقف المحطة وانقطاع الوجود الجماهيرى حتى فى موسم عيد الأضحى، بأن المحطة مكان سياحى ولا يجوز تعطيله، موضحاً: «ماينفعش تتقفل، لأن السكة الحديد هى روح البلد من أسوان للسلوم»، يطلق المواطن البسيط صافرة تحذير من الخسائر المترتبة على غلق المحطة: «وقف القطر ده قطع عيش وخسارة على الأقل مليون جنيه للدولة»، حسب تقدير المواطن البسيط.

على الرصيف المقابل لباب المحطة الرئيسى يقف «علاء ممدوح» فى قهوة صغيرة يبيع الشاى وبعض المشروبات الأخرى، لم يتجاوز 20 عاماً لكنه يدرك الأضرار التى ألحقها به قرار وقف السكة الحديدية، يقول «علاء»: «لما المحطة تشتغل بنقعد لحد الصبح ودلوقتى بنام من قلة الشغل»، مؤكداً أن أيام عيد الأضحى موسم بيع وشراء للزبائن المسافرين والعائدين: «الشغل واقف والمكان بندفعله إيجار للحى، وهما بيقولوا مالناش دعوة بالكلام ده خالص»، حسب كلام «علاء». ولأن محطة القطار ماء الحياة للمنطقة المجاورة لها، يشكو عم «فودة»، صاحب مطعم، من الكساد المترتب على قرار الحكومة بوقف السكة الحديدية: «الدنيا سداح مداح لو قدرنا نجيب يوميات الصنايعية فى اليوم يبقى كويس»، وفقا لتضرر «فودة» من وقف القطارات. مؤكداً أن المقاهى والمحلات المجاورة له يواجهون المعاناة نفسها ما يهددهم بخطر الغلق.

بجوار مفرش على الأرض يحمل مجموعة من لعب الأطفال يجلس «حسام خضير» مهموماً، فقرار مجلس الوزراء بوقف حركة القطارات أوقف عن الشاب الثلاثينى منابع رزقه، معلقاً بقوله: «يعجب مين الحال ده؟ فلوس مفيش وبيع مفيش، نعمل إيه طيب عشان نعيش؟»، مهاجماً قرار وقف القطارات بأنه قرار خاطئ: «الناس اللى اتْقَطع عيشها فى المحطات والقطورات وزينا كده هتاكل ازاى؟ أكيد هتسرق»، حسب كلام ابن محافظة الدقهلية، «حسام» يعتبر نفسه وأبناءه الثلاثة ضحايا وقف السكة الحديدية، متسائلاً: «يعنى خايفين علينا من الموت ومش خايفين نجوع؟».

لأن «السيئة تعم» فتبعات وقف السكة الحديدية يطال العاملين فيها ولاسيما الفئات المرتبطة رواتبهم بحركة القطارات مثل سائقى القطارات والكمسارية، حيث يخضع حسابهم لإنتاج الرحلات والمسافات التى يعملونها فى الشهر، حسب عبدالنبى سليمان، سائق قطار، يشير إلى أن قرار وقف السكة الحديدية الأكثر تضرراً منه سائقو القطارات نظراً للحوافز والبدلات المتعلقة بالعمل والشق الإنتاجى فى الراتب: «قاعدين فى بيوتنا ولا بنعمل حاجة، يبقى هيقبضونا إيه غير الأساسى بتاع المرتب؟»، حسب كلام الرجل الخمسينى، «سليمان» يقول إن العاملين بهيئة السكة الحديدية لا سبيل لهم إلا هى، متمنياً عودة العمل تجنباً للمزيد من المشكلات المترتبة على هذا التعطيل: «الناس الواقف رزقها وماعندهاش شغل تانى هتعمل إيه غير تبقى عالة البلد فوق اللى فيها؟»، متحدثاً عن الوضع الأمنى يقول سائق القطار إن أمان السكة الحديدية يكمن فى تشغيل القطارات، لأن الانقطاع يهدد بنية الهيئة، خاصة خطوط السير الممدودة من السلوم غرباً وحتى أسوان جنوباً: «كده اللى عايز يسرقله حاجة بياخدها، خاصة معدات الجرار والفرامل والأجهزة الفنية المهمة فى السواقة، وممكن تسبب كوارث لما نرجع نشتغل».

المصاب الأعظم من وقف حركة القطارات يقع على المواطن، متأثراً فى كل جوانب حياته اليومية والعملية، فبالنظر إلى درجة الاعتمادية على القطار كوسيلة مواصلات ملائمة يجد الكثيرون من فئات الشعب معاناة شديدة حال غياب هذه المواصلة، حسين خلوصى، تاجر ملابس، يسافر فى الأسبوع نحو 4 مرات، من وإلى محافظة الشرقية، موضحاً: «لما بانزل القاهرة أشترى بضاعة الحاجة الوحيدة الموفرة والأمينة هى القطر، وكمان تشيل الكميات الكبيرة دى»، «خلوصى» يؤكد أن تعطل السكة الحديدية يمتد ضرره مباشرة إلى التجار خاصة تجار الملابس: «من أول الحظر ووقف القطر بقيت أنزل فين وفين أشترى بضاعة عشان هشيلها فى إيه؟»، مستهجناً تصرفات الحكومة بإصدارها قرارات ذات أضرار على المواطن دون تقديم حلول بديلة وعملية: «ضيعوا علينا موسم وسوق العيد السنة دى»، يقولها الرجل الشرقاوى بغضبة، رافضاً المجازفة ونقل بضاعته بوسيلة نقل أخرى خشية إنفاق مبالغ مالية عالية أو تعرضها للتلف أو السرقة فى الشارع: «قلت بلاش مجازفة، مفيش حاجة مضمونة، كفاية خسارة موسم عيد الأضحى». «حسين» من المواطنين أصدقاء السكة الحديدية، يشعر بحال أهالى بلدته وطبقته الاجتماعية المتوسطة، حيث يعوق غياب القطار حركة التجارة الصغيرة التى يقتات منها الفلاحون والتجار الصغار: «لما التاجر عشان يسافر يدفع الأجرة الضعف وينقل بضاعته بعربية مخصوص يبقى هيكسب إيه وهياكل منين؟!».الخسارة الناجمة عن قرار الحكومة بوقف القطارات لدواعٍ أمنية لا يختلف تأثيرها باختلاف المراكز الاجتماعية، د. كريم مصلح، عميد كلية الآداب بسوهاج، يقيم بالقاهرة ويسافر ذهاباً وعودة بالقطار، اضطره توقف السكة الحديدية إلى تغيير مواعيده واستبدال القطار بالطيران: «باسافر 3 أيام فى الأسبوع، وباخد المشوار طيران عشان الطريق البرى بعيد ومش كويس»، موضحاً أن الالتفات لهيئة السكة الحديدية يحتاج إلى تكثيف أمنى وتعاون بين المواطنين ورجال الأمن لإعادة المرفق إلى العمل، نظراً لحيويته وتأثيره على كل مناحى التعامل والحياة فى مصر، د. مصلح يعتبر وقف السكة الحديدية نجاحاً للعنف والترهيب الإخوانى: «الدولة لازم تشغل مرافق الدولة وتصعد التدابير الأمنية عشان تمنع وقوع كوارث»، ناصحاً بإشراك المواطن وتعليمه كيفية حماية نفسه بنفسه فى الشارع ووسيلة المواصلات وأى مكان فى بلده. جاء من محافظة قنا ليعمل فى العاصمة، مأساته الحقيقية تظهر فى أسفاره من وإلى القاهرة، نظراً لبعد المسافة عن مسقط رأسه بالصعيد، اعتاد «أسامة محمد عرابى» السفر بواسطة السكة الحديدية، يقول ابن مدينة نجع حمادى: «لغيت السفر عشان مفيش قطر وماينفعش أسافر بعربية»، ويقول إن الأتوبيس بديله الوحيد حال غياب القطار: «السفر لبلدنا ماينفعش غير بالقطر، لكنى باركب الأتوبيس لما يكون لازم أروح ضرورى»، حسب الشاب الحاصل على ليسانس الآداب، حاملاً غضب الجنوبيين على لسانه: «محافظات بحرى ممكن تستغنى عن القطر لكن الصعيد صعب لأن المشوار بعيد قوى، ومعظم ناسه بيشتغلوا ومقيمين فى القاهرة»، ويتهم «عرابى» جماعة الإخوان بالتسبب فى جميع الأزمات الحالية فى المجتمع المصرى: «مش كفاية كانوا فاشلين عايزين يفشلوا البلد ويموتوا الشعب كمان!».

«كل يوم بتخسر أكتر وفيه انفلات وضياع لعيش العمال وحال المواطنين»، هكذا يعلق محمد عبدالستار، رئيس النقابة المستقلة للعاملين بالسكة الحديدية، على قرار وقف حركة القطارات للتداعيات الأمنية، مضيفاً أن جوانب الخسارة تتمثل فى توقف العوائد واستمرار صرف الأجور والحوافز للعاملين بهيئة السكة الحديدية. المثير للسخرية أن هيئة السكة الحديدية توفر لعمالها وسائل مواصلات لانتقالهم من إقاماتهم البعيدة تعويضاً عن توقف القطارات التى كانت تقلهم: «المفروض كل يوم بيمضوا وده بيتطلب من الهيئة نقلهم على نفقتها»، حسب كلام «عبدالستار». ويؤكد القيادى النقابى توقف كل مصادر وبنود إيرادات الهيئة باستثناء عدد قليل من قطارات البضائع للحفاظ على شبكة القضبان من المساس بها ونظراً لبعدها عن مخاطر الإرهاب، يقول محمد عبدالستار: «الحالة النفسية والمعنوية عند العمال منخفضة عشان الخوف واللخبطة المستمرة اللى عايشين فيها».

الوطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى