المقدّس لم يحرِّم الإيروس والحجاب ترويض

الزهرة إبرهيم مفكرة مغربية حاصلة على دكتوراه في المسرح حول “الجسد والقناع والدمية” في المسرح الغربي. هي أستاذة في التعليم العالي في جامعات ومراكز كثيرة. من إصداراتها “وجوه الجسد”، “الإيروس والمقدّس” و”معبد الفراش”.
¶ في كتابكِ “الإيروس والمقدس” غصتِ في التراث الشفهي المغربي بحثاً عن الطقوس المسرحية المنشغلة بالجسد الانساني. فكيف يحتفى بالجسد في التراث المغربي؟
– يتحقق الجسد في الطقس “الحمدوشي” كحضور فيزيقي وثقافي. إنه حامل ثقافة ويملك طاقات الأداء المسرحي من خلال التملك والجذبة (La Transe)، ما يرتقي بهذا الطقس إلى مفهوم المسرح كما حددته شعريات المسرح ما بعد الحداثية. أما الجسد المضاعَف في قناع طقس “بَرْكاشُّو” الذي نجده في واحة فجيج بالجنوب الشرقي للمغرب، كصورة مجازية مخادعة للجسد الحقيقي، فجسد مُمَوَّهٌ بقناع، لكنه وطيد الصلة بالمجتمعات الزراعية. هذا الطقس يخلق المرح والمتعة في الظاهر، لكنه يسعى، بشكل مضمر، إلى نقض تابوات المجتمع التقليدي وخلخلة منظومته التقليدية. ثم هناك طقس “تَاغَنْجَا” حيث تستخدم الدمية الخارقة، وهي جسد هامد يلعب دور وسيط مقدس بين جسد الإنسان العادي المدنس وبين الذات الإلهية لاستجداء الغيث وابتهال الخصب في أزمنة الجدب واليباب، كما تنص على ذلك طقوس استدرار المطر لدى كثير من الشعوب.
¶ هل تشكل هذه الطقوس المسرحية نوعاً من التصالح الموقت بين الإيروس والمقدَّس؟
– لا أعتبره تصالحاً، لأن المقدس لم يحرّم الإيروس مطلقاً، ولم يخاصمه. الإيروس أصل الحياة ومدد الاستمرار. وحين أخصّ بالكلام، المقدّس الإسلامي، فهو قد نظّم هذا الإيروس، في الكتاب وفي السنّة، ليواصل بقاءه من منظور يضبط حدود الحرام والحلال في هذه الرغبة الوجودية التي تتدفق لدى كل كائن، وذلك من أجل أن يواصل رغبة الطبيعة في صون كائناتها، ومن أجل أن تنعم هذه الكائنات بالمتع التي يكون الجسد مصدراً لها وغاية. إن ما أثير من جدل خاطئ حول موضوع الرغبة، غذّته تيارات لم تفهم حقيقة الخطاب الربّاني حول أسرار خلقه للإنسان من ذكر وأنثى، وبجسدٍ صيغ ليحتفي بالرغبة في الحياة وتمجيد الخصب والعطاء. هذا الجدل راكم تصورات خاطئة أفرزتها ثقافة غير عالمة أو متطرفة ذهبت إلى حد تصنيف الإيروس في خانة المدنَّس بمعناه القدحي.
¶ إذاً، كيف يمكن تفسير النكران المتزايد للجسد في الثقافة الاسلامية؟ حجاب وبوركة فجلبا …
– مسألة الحجاب في الإسلام ينبغي أن يعاد فهمها فهماً صحيحاً باستحضار أسباب النزول التي أملت على نساء النبي أن يضربن بخمارهن. الجسد في كل الثقافات صيغة وجود، لا شيء يوجد خارج الجسد، وحين يحتار الإنسان أمام رغبات جسده ويعجز عن ضبطها، فأمامه خياران/ إكراهان: إما أن يمعن في قمع هذه الرغبات ولا سيما إذا تحكمت فيه ضوابط سياق المنع الموجودة بكثرة في تعاليم الدين، وإما أن يحررها وينسف بذلك الخطوط الحمراء بين الحلال والحرام المرتبط بالجسد. داخل المجتمعات الإسلامية، يمثل الجسد حقل ألغام، لذلك يتم تطويقه عبر ستائر المنع لطمس تضاريسه المغرية مما يزيد في نتوئها عوض تسويتها أو محوها. لا بأس بأن أُذكِّر هنا بما قاله جان جينيه يوماً عن نساء مدينة طنجة المُخفيات أجسادَهن وراء جلابيبهن، بأن النساء السافرات لا يثرنه بقدر ما تغريه المختفيات، فتتجه عيونه إلى فتحات جلابيبهن لاستكناه خبايا أجسادهن. إذا كان الحجاب المعتدل كالجلباب يثير ردود الفعل هاته، فكيف نتصور موقف العين الذكورية أمام كتلة إغراء تتحرك تحت نقاب فتضاعف الإثارة والرغبة في الكشف الكاسح؟
¶ ولكن بغض النظر عن العين الذكورية، ألا ترين أن الحجاب هو محو لهوية المرأة ورفض صريح لحقها في امتلاك جسدها؟
– الحجاب هو، أولا، تنميط لكيان المرأة، ليس على مستوى المظهر الخارجي فحسب، بل أيضاً على مستوى تمثلها لذاتها وللعالم حولها انطلاقا من هذا الشكل الخارجي الذي تنوجد- تتعايش به وعبره، داخل نسق اجتماعي يصنّفها بطريقة أوتوماتيكية في خانة معينة تتعلق بمرجعيات ملتبسة ومتنازعة بين الدين والأعراف والأساطير والإيديولوجيا. وحين نكرس النمطية، يسهل تذويب التميز La distinction بمفهوم بيار بورديو. التنميط آلية خطيرة للترويض وتيسير التحكم في من نخضعهم لصوغ نموذج قابل للاستكانة والإذعان لسلطات المجتمع المختلفة. لقد صرنا نسمع عبارات من قبيل: لباس المتحجبات، ماكياج المتحجبات، محال المتحجبات، قاعات رياضة أو مزينات ومصففات شعر أو مصورات حفلات خاصة بالمتحجبات، ثقافة طارئة تعتمد تصنيفاً يأخذ بظواهر الأشياء لا بعمق كيان هذه “المتحجبة”، وأعني بهذا بناء شخصيتها، وذكائها، ومقدّراتها الجسدية والعقلية والوجدانية التي تؤهلها للمساهمة الفاعلة في التنمية البشرية التي تعتبر المجتمعات الإسلامية في أمس الحاجة إليها. أريد أن أذكِّر هنا بالفضائح الأخلاقية التي ترتكبها “المتحجبات” أو أولئك الذين يبشرون بهذه الثقافة الرجعية التي تحكم على مَن يتورط في دائرتها بأن يظل حبيس نزوات جسده، وبألاّ يطرح أسئلة غيّرت وجه العالم، من قبيل أسئلة ابن الهيثم والشريف الإدريسي وإسحق نيوتن إلخ…
أما ثانيا، فالحجاب مراوغة صريحة لجسد الأنثى (لا أقول المرأة)، إذ بالقدر الذي يسعى إلى محوه وطمس معالمه بهدف “صونه”، فإنه يثير الانتباه إليه، ويجعله ناتئاً ومشتهى. هذان الطمس والإثارة اللذان حين يلتقيان، يتسببان بشُبهة لجسد أنثى مّا، بسبب التشابه والتنميط بينها وبين أخرى.
حين تصير الأنثى عندنا قادرة على امتلاك جسدها علميا، وأقصد هنا وعيها بأن هذا الجسد ليس مجرد بؤرة عضو تناسلي ومناطق إثارة للذكر، وبأن جسدها يملك طاقات كامنة للممارسة الرياضية، وللتفكير الرياضياتي، ولسياقة مترو الأنفاق، وإدارة محطة للطاقات المتجددة، والاعتراض على موازنة حكومة تحت قبة البرلمان إلخ… وقتذاك، يمكننا المراهنة على مواجهة كل أشكال المحو ضد جسد المرأة وليس الأنثى. لا ننتظر من الذكر أن يمنح وجود المرأة مشروعيته. لا وجود لامرأة خارج جسدها، لذلك فهي، ذاتها، مطالَبة بإثبات وجوده عبر مشاركته في قانون اللعب الاقتصادي والاجتماعي والفكري أيضاً.
اخبار مصر