الأقباط الذين لا يعرفهم أحد

Coptic Orthodox Christians mourn for their relatives in Cairo

 

 

 

خطاب الإخوان المتشدد وراء ما يتعرض له الأقباط من عنف دموى وإقصاء وتكفير

إنشاء المعاهد الأزهرية بأموال سعودية أدى إلى عدم معرفة الآخر القبطى

أقباط مصر هم أكبر الأقليات المسيحية بالشرق الأوسط، وهم أقدم جماعة وطنية متماسكة وموجودة فى نفس مكانها على أرض مصر بنفس خصائصها فى استمرارية ترجع إلى أكثر من خمسة آلاف سنة من قبل تحولهم إلى المسيحية، وكان يطلق عليهم إلى عهد قريب، فى زمن «الدين لله والوطن للجميع» أنهم أحد «عنصرى الأمة» المصرية، والأغلبية المسلمة هى العنصر الآخر، ومع ذلك فالأقباط أقلية تبدو غامضة غير معروفة أو مفهومة بشكل صحيح من قبل شريكها فى الوطن، هى أقلية تبدو ملغَّزة عصية على الفهم، يكاد أن يختلف عليها شركاء الوطن فى كل شىء، بل يختلفون فى كونها أقلية أصلا، فيقول بعضهم إنها ليست أقلية، متوهمين أن صفة أقلية تقلل من شأن الأقباط أو تنال من انتمائهم لمصر، كما يختلفون فى حجمها، فلا يعرف أحد عددها على وجه اليقين، كما يختلف المسلمون حتى فى تسمية الأقباط، فالبعض يسمونهم بالأقباط والبعض بالمسيحيين والبعض يدعونهم نصارى، كما يختلف المسلمون فى رؤيتهم للأقباط دينيا، فالبعض يرونهم مؤمنين من «أهل الكتاب» والبعض يرونهم كفارا مشركين يقولون إن الله ثالث ثلاثة، والبعض يسمونهم «عبدة الصليب»، كما كان الأقباط يعرفون ويطلق عليهم فى التراث الشعبى المصرى أنهم «عظمة زرقا»، أما عن معتقداتهم وأعيادهم وعاداتهم وسيكولوجيتهم فالالتباس والجهل بها هما الحالة السائدة حتى لدى كثيرين من المثقفين المسلمين، ومعظمهم متعاطف مع الأقباط يدافع عن حقوقهم، مما يجعل الأقباط فى النهاية يبدون كأقلية لا يكاد يعرفها أحد، ولا يريد أحد أن يعرفها.

من بين الأدلة على ما أقول قيام الرئاسة فى مطلع هذا العام بتحديد موعد إجراء انتخابات مجلس الشعب فى أسبوع عيد القيامة، وعندما اعترض الأقباط أعلنت الرئاسة تغيير الموعد، ثم جاء حكم المحكمة بإلغاء الانتخابات لعوار فى قانونها، لكن اللافت هنا أن الرئاسة المصرية لم تكن تعرف موعد أهم عيد عند الأقباط وهو «العيد الكبير» أو عيد القيامة. وأذكر أنه طوال سنوات دراستى فى مصر كنا كثيرا ما نفاجأ ببعض الامتحانات يوم عيد الميلاد أو القيامة، ورغم احتمال أن يكون وراء هذا بعض المتعصبين فى هذه الوزارة أو تلك، ففى أحيان أخرى يكون الجهل بأعياد الأقباط أو عدم الاهتمام بمعرفة مواعيد أعيادهم هو السبب فى هذا

فى لقاء لبابا الأقباط الأنبا تواضروس مع الإعلامى الشهير عمرو أديب سأل أديب عن مصادر تمويل الكنيسة القبطية فقال البابا إنها من تبرعات الأقباط، فهم يخصصون «العشور» أى 10% من دخلهم للكنيسة والفقراء وأعمال الخير، وأبدى أديب دهشة كبيرة لهذه المعلومة التى لم يكن يعرفها، وعلق أنها تقابل الزكاة لدى المسلمين، وعلى الأغلب فإن أديب قد خرج بانطباع خاطئ بأن على كل قبطى أن يدفع 10% من دخله للكنيسة، وهذا ليس صحيحا، فهى ليست فرضا ولا هى من أركان المسيحية كما الزكاة فى الإسلام، وإنما هى عمل اختيارى استنادا لآية تقول «اعطونى العشور وجربونى» بمعنى أن من يعطى للكنيسة والفقراء عشر دخله يغدق الله عليه بالخيرات، كما أن هناك من الأقباط من تعطيهم الكنيسة بدلا من أن يعطوها وهم الفقراء والمحتاجين، ما يهمنى هنا هو أن أحد أشهر الإعلاميين فى مصر لم يكن يعرف عن موضوع «العشور» لدى الأقباط، كما لم يعرف جوانب أخرى تتعلق بإدارة وتمويل الكنائس من شعبها، والأقباط يستخدمون تعبير «شعب الكنيسة» للدلالة على من يصلى بالكنيسة وله علاقة بها، وقد يتبرع أو لا يتبرع لها حسب طاقته.

والواقع أن الجهل بمعظم شؤون الأقباط وأساليب عباداتهم وعاداتهم بما فى ذلك دور الكنيسة فى حياتهم ودورهم داخل الكنيسة أدى إلى تصاعد كمية ضخمة من الأوهام والتخيلات عن الأقباط وكنائسهم، وأحد أكثر عواقب هذا الجهل خطرا كان ذلك التصريح الذى أدلى به قيادى إسلامى شهير هو الدكتور محمد سليم العوا حين ادعى فى أحد اللقاءات التليفزيونية أن الأقباط يكدسون الأسلحة فى الكنائس، وظل يردد هذا الاتهام الذى هو فى الواقع تحريض خطير ضد الأقباط حتى اعتذر عنه فى النهاية بعد عدة أشهر، بعد اتضاح عدم استناده إلى أى سند من حقيقة أو واقع، وقد كان العوا من المرشحين لرئاسة الجمهورية بعد الثورة، فالجهل بالأقباط والتحريض عليهم ليس عملا يمنع من الترشح لرئاسة الجمهورية. ليس من المدهش أن نجد أن هذا الجهل والتجاهل للأقباط على مستوى القمم السياسية والإعلامية فى مصر يقابله جهل أشد وأدهى على مستوى القاعدة الشعبية الواسعة، وخصوصا التى تعانى من الأمية فى المناطق والقرى الفقيرة فى مصر، فحين قام بعض أهالى قرية أطفيح فى عهد المجلس العسكرى بهدم وإحراق مبنى الكنيسة بها قالوا بعدها مبررين ذلك إنهم وجدوا بداخلها كتبا وأوراقا عليها كتابة برموز غريبة لا بد أنها أعمال سحر ضد رجال القرية المسلمين حتى يفقدوا القدرة على الإنجاب!! ولا شك أن ما وجدوه هو كتب الصلوات المكتوبة باللغة القبطية القديمة، التى ما زالت تقام بها، بالإضافة إلى العربية، الصلاة فى القداس القبطى بجميع الكنائس، وعلى الأغلب لا يعرف أحد من أهالى القرية هذا.

فى أحد أشهر الروايات المصرية والتى تحولت إلى فيلم ومسلسل تليفزيونى وهى رواية «عمارة يعقوبيان» يقدم الروائى الشهير علاء الأسوانى شخصيتين لشقيقين من الأقباط، وكأنهما من مصاصى الدماء بلا أدنى حس أخلاقى وبتكالب فظ على المال وحده، بشكل يذكر لأول وهلة بالشكل النمطى الكاريكاتورى لشخصية اليهودى فى كثير من الأعمال الأدبية لروائيين مسيحيين أشهرهم شكسبير، الذى قدم شخصية شايلوك فى «تاجر البندقية»، وتستغرب كيف يقع روائى مصرى فى مثل هذا التنميط الكاريكاتورى للشخصية القبطية إلا إذا كان الأمر مبنيا لا على معرفة شخصية عميقة بالأقباط، ولكن على التصور النمطى الذى تحمله الأغلبية، كل أغلبية، للأقلية، كل أقلية، بشكل عام، إذ نجد أنه يشاع عن الأقباط بين المسلمين غير المتعلمين على الأخص نفس الاتهامات البشعة التى تفتأتها الأغلبية فى الكثير من بلاد العالم لشيطنة وتشويه أقلياتها، فنجد أن العالم المسيحى قد قام بأكبر عملية شيطنة لليهود لأنهم الذين «صلبوا المسيح» فيشاع عنهم أنهم مصاصو دماء -ليس فقط رمزا ولكن فعلا أيضا- وأنهم بلا أخلاق ولا مبادئ بل يصل إلى التشويه الجسدى فنجد أن الفنان العالمى مايكل أنجلو يرسم تمثالا لموسى النبى وبرأسه قرنان واضحان، وهو ما كان يشاع عن اليهود فى أدبيات التشويه لهم، كما يقال عنهم فى الأدبيات الإسلامية أنهم «أحفاد القردة والخنازير» وهو ما ردده مرسى نفسه عنهم فى أحد خطبه قبل الرئاسة، كما نجد أن العنصريين البيض فى أمريكا كانوا يشيعون عن السود اعتقادا أن لأجسادهم رائحة كريهة فى محاولة لوصمهم بالقذارة الجسدية التى تبرر وصمهم بالتبعية بالقذارة الروحية، وبذلك يكون من حق البيض سلب حقوقهم الإنسانية ومعاملتهم كحيوانات تباع وتشترى.

المدهش أننا نجد نفس هذا التشويه النمطى البشع للأقباط من قبل المتعصبين من المسلمين المصريين، متأثرين بنوع من الدعاة الجدد ظهر واستشرى فى الثلاثين سنة الماضية على الأخص، يصنعون شهرتهم بتغذية مشاعر الاستعلاء والكراهية ضد الأقباط، فينعتونهم بالكفار ويصفونهم بالدونية والقذارة والنجاسة الجسدية والروحية، وبذلك يسهل التعدى على إنسانيتهم وسلبهم حقوق المواطنة والمساواة، واللافت أن فى كل مواقف التشويه الممنهج للأقليات فى مختلف المجتمعات نجده يحدث تحت غطاء دينى صاخب وهائج، يمنحه صك الموافقة الإلهية السامية فيقوم الإنسان بناء عليه بأبشع أنواع الإذلال والاستعباد والاضطهاد لأخيه الإنسان المختلف عنه دينا أو مذهبا أو شكلا دون خلجة واحدة من تأنيب الضمير، بل بالعكس نجده يرفل مزهوا بأنه بهذا يرضى ربه ويتقرب إليه.

لم يقصد الروائى علاء الأسوانى أن تأتى الشخصية القبطية فى روايته على هذا النحو النمطى السيئ، فهو مثقف رحب الفكر إنسانى التوجه من المدافعين عن ديمقراطية المواطنة والمساواة، لكن غياب المعرفة العميقة بالأقباط أمر شائع فى مصر خصوصا فى الجيل الذى نشأ بعد رحيل عبد الناصر، وترعرع فى مجتمع سرعان ما انسحبت منه أدبيات الفكر الناصرى القومى أمام جحافل الفكر الإخوانى الذى راح بتشجيع من نظام السادات يجتز الفكر القومى والرؤية الوطنية، ليغرس مكانها نبتا شيطانيا يستخدم العاطفة الدينية أسوأ استغلال لتحقيق أحلام بالغة الرجعية لجماعات الإسلام السياسى بمختلف توجهاتها، بما فيها الإرهابية الدموية، وهو ما ابتليت به مصر منذ السبعينيات لكى يصل إلى ذروته فى صعود جماعة الإخوان إلى السلطة، فى مصادفة تاريخية مفجعة سلبت ثورة مصر الباهرة فرحة أنوارها وحرمتها ثمار تضحياتها.

لقد أفرخ تيار الإسلام السياسى الذى اكتشف المصريون مؤخرا أن الأصح تسميته بالتيار المتاجر بالدين على مدى أكثر من أربعين عاما أكثر الأفكار عدوانية على مفهوم الوطن وحقوق المواطنة، وتشويهه شركاء الوطن من الأقباط، فما أن رحل عبد الناصر وخرج الإخوان من السجون حتى راح يتوارى من الساحة شعار الدين لله والوطن للجميع، ليحل مكانه شعار «الإسلام هو الحل» الذى رفعه الإخوان وتوابعهم من الجماعات الإسلامية الأخرى، فكان هذا بداية واضحة لفرز طائفى هدام راح ينخر تدريجيا فى كل جوانب الحياة المصرية التى كانت مشتركة وأصبحت منفصلة، بل وصلت حالة الفرز الطائفى إلى هيئة وملبس المصريين، الذى كان مشتركا متشابها تماما حتى السبعينيات ثم صار بعد انتشار الفكر الإخوانى يفرز بين المسلمين والأقباط، وخصوصا فى زى النساء والبنات بظهور وانتشار الحجاب ثم النقاب. ووجد الأقباط أنفسهم تدريجيا يختلفون فى الزى والهيئة عن شركاء الوطن مع تزايد واضح فى تشدد الخطاب الدينى، وخصوصا ذلك المهاجم المكفر للأقباط علنا فى ميكروفونات الجوامع والزوايا فى كل شارع تقريبا.

صاحب هذا الفرز الطائفى بداية أعمال متزايدة من العنف ضد الأقباط، بدأت فى حادثة إحراق كنيسة الخانكة عام 1972 مع بداية عهد السادات، ثم الزاوية الحمراء عام 1981 فى نهاية عهده، ومع الانتشار المتزايد للخطاب الإخوانى المتشدد طوال الثمانينيات والتسعينيات ظهرت ثماره الشوكية السامة على شكل أعمال عنف متزايدة، حتى إن بحثا قامت به المبادرة المصرية للحقوق الشخصية فى أبريل 2010 جاء به «كان المعدل السنوى لحوادث العنف فى مصر حتى يناير /كانون الثانى 2010 يبلغ 53 حادثة ذات صبغة طائفية سنويا، أى بمعدل حادثة كل أسبوع، توزعت بين 17 محافظة من أصل 29 محافظة مصرية، وتراوحت بين حادثة واحدة مثل محافظة الشرقية وبين 21 حادثة فى محافظة المنيا».

وفى بحث لهانى نسيرة نشره مركز الجزيرة للدراسات يقول «ورغم ارتفاع نسب الحوادث الطائفية فى العقدين الأخيرين من عهد مبارك فإن نظامه ظل يستخدم حجج التهوين والإنكار لحقيقة الاحتقان الطائفى الماثلة للعيان، وشهد هذا العهد استهداف الأقباط بشكل منظم من قبل جماعات العنف الدينى الإسلامية طوال عقد التسعينيات، وخصوصا فى محافظات المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا بصعيد مصر، ووصل الأمر إلى حد تطبيق الحدود على بعض الأقباط فى مسجد الرحمن بأرض المولد بالمنيا، على مرأى ومسمع من أجهزة الأمن من تعليق الرؤوس على أعمدة الإنارة بعد عمليات القتل، كما حدث بين عامى 1992 و1994 فى أبوقرقاص بالمنيا. وفى هذه المرحلة فقط بلغ عدد قتلى الأقباط على أيدى الجماعة الإسلامية أكثر من مئة قتيل فى حوادث متفرقة».

وكانت أكثر الأحداث دموية بعد ذلك هى الكشح الأولى والثانية، ونجع حمادى، ثم كنيسة القديسين بالإسكندرية فى نهاية عهد مبارك، واستمرت بعده فى عهد المجلس العسكرى، بما عرف بأحداث ماسبيرو، ثم نظام الدكتور مرسى الذى شهد مؤخرا أحداث الخصوص ثم الاعتداء غير المسبوق على كاتدرائية الأقباط بالقاهرة مع تقصير فاضح من جانب الأمن الذى أظهرت الفيديوهات أن المعتدين على الكاتدرائية كانوا يقذفونها بالحجارة والرصاص وهم واقفين بجوار رجال الأمن دون أى ردع لهم.

وقد كان من الطبيعى أمام مسلسلات الاعتداءات عليهم معنويا وجسديا وماديا أن ينسحب الأقباط تدريجيا من الساحة الوطنية العامة ويلجؤوا إلى كنائسهم يحتمون بكنفها وإلى قياداتهم الدينية يشكون إليها بعد أن فرغ نظام مبارك الساحة السياسية من أى وجود لمعارضة، وكذلك من أى وجود لشخصيات سياسية قبطية تعبر عن الأقباط، فلم يجد الأقباط صوتا لهم سوى صوت الكنيسة وعلى رأسها البابا الراحل الأنبا شنودة، الذى وجد الدولة تضطره إلى لعب دور سياسى لم يكن من المفروض أن يلعبه.

وفى لقاء عمرو أديب السابق الإشارة إليه مع بابا الأقباط الجديد الأنبا تواضروس، سأل أديب إن كان للكنيسة دور فى توجيه الأقباط للتصويت للفريق شفيق وليس الدكتور مرسى فى انتخابات الرئاسة، ونفى البابا ذلك، والحقيقة أن عمرو أديب لم يكن محتاجا لهذا السؤال لو كان يدرك عمق مخاوف الأقباط من تيار الإسلام السياسى كله، وليس الإخوان فقط، فهم يعرفون أن وراء ما يحدث لهم من أعمال عنف دموية وإقصاء وتكفير واعتداءات خطاب دينى متشدد مصدره هذه الجماعات، وعلى رأسها الإخوان، ومن كان مثلى فى سن تسمح له بالمقارنة بين حال مصر وأقباطها فى عهد عبد الناصر وخصوصا فى الستينيات -وما أدراك ما الستينيات- قبل سيطرة الإخوان والجماعات على الشارع المصرى، وحال مصر والأقباط بعد ذلك وخصوصا منذ الثمانينيات وحتى اليوم، لا بد أن يدرك مدى الضرر الهائل الذى سببه هذا التيار برمته لمصر ووحدتها الوطنية وأمنها القومى. ولذلك فلم يكن الأقباط فى أى وقت يحتاجون إلى إشارة من كاهن أو بابا تقول لهم لا تنتخبوا الإخوان، فقد يكون الأقباط طيبين ولكنهم ليسوا بُلهًا.

إغراق ساحة المواطنة العامة فى مصر بالفكر الإخوانى وما أفرخه من فكر جهادى دموى ضال ضد شركاء الوطن صاحبه وزاد من استفحاله انحسار متزايد فى فرص التعارف الحميم بين الأغلبية المسلمة والأقلية القبطية، فمنذ الثمانينيات تسارعت وتيرة إنشاء المعاهد الأزهرية بأموال سعودية ورؤية وهابية سمح لها نظام مبارك بدخول مصر فانتشرت هذه المعاهد فى أنحاء مصر، حيث يدخلها الطالب المسلم منذ الحضانة وحتى التخرج فى الثانوية العامة دون أن يجلس بجانب طالب مسيحى واحد، أو يتكلم مع طفل أو شاب مسيحى واحد، وبهذا تزايد الفرز الطائفى الخطير بين «عنصرى الأمة» اللذين لم يعد أحدهما يعرف شيئا عن الآخر رغم وجودهما الجسدى فى وطن واحد، لكن بفكر ووجدان أصبح مختلفا بل ومتوجسا أو عدائيا إلى حد كبير.

التحريض العلنى السافر ضد الأقباط تزايد فى عهد الإخوان، فعندما خرج الملايين من المصريين فى مسيرة سلمية هائلة أمام قصر الرئاسة بالاتحادية ادعت قيادات إخوانية بارزة أن هؤلاء معظمهم من الأقباط، ومؤخرا عندما وقع الاعتداء غير المسبوق على كاتدرائية الأقباط بالقاهرة بينما كان المصلون يشيعون شهداءهم أصدر المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية بيانا بالإنجليزية فقط لوكالات الأنباء الأجنبية يحمّل فيه الأقباط مسؤولية ما حدث من أعمال عنف ضدهم، مما اضطر الرئاسة للتنصل من البيان بعض افتضاح أمره، وقد ظهر الإعلامى الشهير إبراهيم عيسى فى برنامجه التليفزيونى بعد الحادثة يقول بأسلوبه الحاد وبلغة بين العامية والفصحى ما معناه «لا بد أن نعترف أن لدى المسلمين مشكلة فى ما يخص الأقباط، وما تقوليش أنا أعز أصحابى أقباط والكلام الفارغ ده، أنتم عندكم مشكلة مع الأقباط وعليكم مواجهة أنفسكم بهذا».

والحقيقة أن إبراهيم عيسى قد نطق بالمسكوت عنه فى مصر، فهناك «مشكلة» أو «قضية» قبطية يجب فهمها والعمل على حلها ليس من أجل الأقباط فقط، وإن كان هذا هدفا جديرا وضروريا فى حد ذاته، لكن أيضا من أجل مصر ووحدتها الوطنية وأمنها القومى، فيعلمنا التاريخ أن أكثر عصور مصر انحدارا كانت عصور الفرز الدينى واضطهاد الأقباط، بينما كانت أكثر عصورها ازدهارا هى عصور الدولة المدنية القوية والمشروع الوطنى القومى كما فى عهدى محمد على وجمال عبد الناصر، وكل أعمال العنف والإقصاء والتفرقة ضد الأقباط هى إفرازات القضية لا أسبابها، أى هى العَرض لا المرض، أما المرض فله جانبان.

الجانب الأول هو رؤية دينية متسلطة ومتشددة ارتفع خطابها الصارخ فى مصر منذ السبعينيات فى تصعيد مستمر، والتصعيد هو طبيعة الرؤية الدينية المتسلطة، فهى لا بد أن تصعد وتيرة تشددها حتى تصل إلى التطرف ثم إلى الإرهاب، فتبدأ بالإخوان ثم سيد قطب لتصل إلى التكفير والهجرة إلى مصطفى شاكر ثم القاعدة للظواهرى، تبدأ بالحض على الاحتشام والمحافظة فى الزى ثم الحجاب ثم النقاب، ولا يأتى هذا من الأزهر ولكن من دعاة جدد بلا أهلية ولا مسؤولية، وهذا الجانب المتشدد المتطرف دينيا ليس من طبيعة المصريين الأصلية، ولكن كثرة واستمرار الهياج التحريضى الداعى للتشدد لا بد أن يؤثر فى الكثيرين فى غياب التعليم الحديث، وفرص الحياة الكريمة وهو ما حدث لفئات المطحونين فى مدن وقرى أهملتها الدولة بالكامل فى عهد مبارك، وهؤلاء هم من يقومون بجل أحداث العنف ضد الأقباط.

علاج هذا الجانب لا يتطلب عبقرية اجتماعية أو فكرية، ولكن يتطلب إرادة سياسية قوية تحرص بصلابة على مصلحة مصر، وهو ما فعله عبد الناصر، فلم يكن يسمح للمتطرفين الرجعيين أن يسيطروا على الساحة الاجتماعية أو الثقافية، وهذا حق مشروع للدولة وواجب عليها، فالتحريض على الكراهية والعنف ضد الآخرين ليس حرية فكرية ولا حرية تعبير ولا حرية عقيدة كما يتوهم البعض، لكنه جريمة يعاقب عليها القانون فى كل الدول العصرية، وعليه كان يجب على الدولة القضاء على الخطاب الدينى المتطرف بقوة القانون، ولكن الدولة كانت متواطئة فى الجريمة لأنها توهمت أنها بهذا تشغل الناس عن محاسبة النظام، وكان هذا خطأ فادحا، فكانت نهاية السادات على أيدى التيار المتشدد الذى رعاه هو، وكانت نهاية مبارك بسبب إهماله حال البلاد والعباد ورعايته للفساد، فالأمان الوحيد للحاكم هو فى أمانته فى تحمل مسؤليته أمام وطنه وعمله lلمخلص من أجل المواطنين.

الجانب الآخر للمشكلة القبطية يقع فى مساحة عدم المعرفة، لكى لا أقول الجهل، التى تقبع فيها الأغلبية المسلمة بخصوص الأقلية القبطية، وهذا الحال ينطبق على الأغلبية العظمى من المسلمين بمن فيهم القيادات السياسية والثقافية والإعلامية كما أوضحت فى بداية مقالى، أى أنه حتى الملايين من المسلمين المصريين الذين لا يحملون تجاه الأقباط سوى مشاعر الود اللازمة للعيش المشترك الفعال نجدهم لا يعرفون عن شركاء الوطن سوى القليل اليسير، بما لا يكفى فى الواقع لإقامة علاقات اجتماعية وشراكة وطنية حقيقية وقوية، والذنب فى هذا لا يقع عليهم، لكنه ذنب دولة تخلت منذ عقود عن القيام بواجباتها الأساسية تجاه الوطن والمواطنين.

فى وطن به «عنصران للأمة» كان يتحتم على الدولة أن تقوم بتعريف كل عنصر من عنصرى الأمة بالآخر، والمكان الطبيعى لهذا هو مقررات الدراسة بالمدارس، ولكننا نجد غيابا غبيا وكاملا لمثل هذه المقررات، فبينما يدرس التلميذ المصرى، المسلم والمسيحى، التاريخ الفرعونى والعربى والإسلامى ويحفظ آيات من القرآن الكريم فى دراسته للغة العربية، فى الوقت الذى يعيش فى وسط مظاهر إسلامية واضحة يعرف عنها بحكم المعايشة كل شىء بالضرورة، فيعرف المسيحى ما هو رمضان شهر الصيام وما هو الحج وما هى الزكاة وما هو الآذان وما هى الصلاة التى هى خير من النوم، لا يدرس التلميذ المسلم أى شىء عن التاريخ القبطى أو التراث المسيحى فى مصر، والأهم لا يدرس شيئا عن أقباط اليوم وأعيادهم وعاداتهم، كيف يفكرون وما علاقتهم بالآباء الكهنة والكنيسة، لماذا يصلون باللغة القبطية وما هى هذه اللغة، كيف يصومون، وما هى أهم آيات الإنجيل وأقوال السيد المسيح.

كانت نتيجة الخطاب التحريضى ضد الأقباط من جانب، وغيبة المعرفة عن الأقباط لدى معظم المسلمين من جانب آخر، أن وصلت بنا الحال فى مصر اليوم أن يقول نحو ثلث المسلمين (30%) أن ديانة تاجر هى عامل يمكن أن يمنعه من الشراء منه، بينما كان هذا عاملا عند «صفر» أى لا أحد من الأقباط، وجاء هذا فى استطلاع رأى أجراه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء فى خريف 2011 أى أن التاجر المسيحى ينافس التاجر المسلم وقد خسر ثلث السوق مسبقا، مثل هذه المعلومات التى تتحول فى حياة الأقباط إلى معاناة يومية تكون غالبا غائبة عن وعى الأغلبية المسلمة، ولهذا قد يتصور ويقول البعض إن الأقباط أقلية مدللة وليست أقلية تعانى الاضهاد أو التفرقة، والواقع أن كل الأغلبيات فى كل المجتمعات لا تشعر عادة بشكل كامل بمشاعر الأقليات فى مجتمعاتها، وهناك من البيض الأمريكيين من يقول إن السود لم يعانوا من أى اضطهاد، بل بالعكس هم مدللون يستفيدون من إعانة الدولة لهم.

فى النهاية نجد أن مما يطمئننا على مصر هو أن من يدافع عن الأقباط بشدة هم الأغلبية الفائقة من المثقفين والكتاب والفنانين المصريين، وهم طليعة أى مجتمع ونخبته الرائدة، فى مصر نجد أن الدفاع عن الأقباط جاء ويجىء من علامات فكرية وثقافية بارزة مثل نجبب محفوظ وتلميذه جمال الغيطانى ومحمد حسنين هيكل ود.رفعت السعيد ومحمد السلماوى وعبد الرحمن الأبنودى وإبراهيم عيسى وكوكبة كبيرة أخرى ليس هنا مجال تسجيل أسمائهم كلها، ولكن الواقع هو أن مقياس تحضر أى مجتمع هو مدى حمايته للأضعف من أعضائه كالأقليات والمرأة والمحتاجين، كما أن مقياس إنسانية أى فرد هو مدى مساندته لحقوق الأقليات والمظلومين فى مجتمعه.

 

 

 

التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى